سورة ص - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3)}
قوله تعالى: {ص} قراءة العامة {ص} بجزم الدال على الوقف، لأنه حرف من حروف الهجاء مثل: {الم} و{المر}. وقرأ أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر ابن عاصم {صاد} بكسر الدال بغير تنوين. ولقراءته مذهبان: أحدهما أنه من صادي يصادي إذا عارض، ومنه {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 6] أي تعرض. والمصاداة المعارضة، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية. فالمعنى صاد القرآن بعملك، أي عارضه بعملك وقابله به، فاعمل بأوامره، وانته عن نواهيه. النحاس: وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسر به قراءته رواية صحيحة. وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته. والمذهب الآخر أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين. وقرأ عيسى بن عمر {صاد} بفتح الدال مثله: {قاف} و{نون} بفتح آخرها. وله في ذلك ثلاثة مذاهب: أحدهن أن يكون بمعنى أتل. والثاني أن يكون فتح لالتقاء الساكنين واختار الفتح للإتباع، ولأنه أخف الحركات. والثالث أن يكون منصوبا على القسم بغير حرف، كقولك: الله لأفعلن، وقيل: نصب على الإغراء.
وقيل: معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا {صاد} بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم، وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله. ويجوز أن يكون مشبها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع: {صاد} و{قاف} و{نون} بضم آخرهن: لأنه المعروف بالبناء في غالب الحال، نحو منذ وقط وقبل وبعد. و{ص} إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف، كما أنك إدا سميت مؤنثا بمذكر لا ينصرف وإن قلت حروفه.
وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وقد سئلا عن {ص} فقالا: لا ندري ما هي.
وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن {ص} فقال: {ص} كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار.
وقال سعيد بن جبير: {ص} بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. قال الضحاك: معناه صدق الله. وعنه أن {ص} قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى.
وقال السدي، وروي عن ابن عباس.
وقال محمد بن كعب: هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد.
وقال قتادة: هو اسم من أسماء الرحمن. وعنه أنه اسم من أسماء القرآن.
وقال مجاهد: هو فاتحة السورة.
وقيل: هو مما استأثر الله تعالى بعلمه وهو معنى القول الأول. وقد تقدم جميع هذا في البقرة. قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ} خفض بواو القسم والواو بدل من الباء، أقسم بالقرآن تنبيها على جلالة قدره، فإن فيه بيان كل شي، وشفاء لما في الصدور، ومعجزة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {ذِي الذِّكْرِ} خفض على النعت وعلامة خفضه الياء، وهو اسم معتل والأصل فيه ذوى على فعل. قال ابن عباس: ومقاتل معنى {ذِي الذِّكْرِ} ذي البيان. الضحاك:
ذي الشرف أي من آمن به كان شرفا له في الدارين، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أي شرفكم. وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره.
وقيل: {ذِي الذِّكْرِ} أي فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين.
وقيل: {ذِي الذِّكْرِ} أي فيه ذكر أسماء الله وتمجيده.
وقيل: أي ذي الموعظة والذكر. وجواب القسم محذوف. واختلف فيه على أوجه: فقيل جواب القسم {ص}، لأن معناه حق فهي جواب لقوله: {وَالْقُرْآنِ} كما تقول: حقا والله، نزل والله، وجب والله، فيكون الوقف من هذا الوجه على قوله: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} حسنا، وعلى {فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} تماما. قال ابن الأنباري.
وحكى معناه الثعلبي عن الفراء.
وقيل: الجواب {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} لأن {بل} نفي لأمر سبق وإثبات لغيره، قاله القتبي، فكأنه قال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} عن قبول الحق وعداوة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أو {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة بل هم في تكبر عن قبول الحق. وهو كقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا} [ق: 2].
وقيل: الجواب {وَكَمْ أَهْلَكْنا} [ق: 36] كأنه قال: والقرآن لكم أهلكنا، فلما تأخرت {كم} حذفت اللام منها، كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} [الشمس: 1] ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ} [الشمس: 9] أي لقد أفلح. قال المهدوي: وهذا مذهب الفراء. ابن الأنباري: فمن هذا الوجه لا يتم الوقف على قوله: {فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ}.
وقال الأخفش: جواب القسم {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ} ونحو منه قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 97] وقوله: {وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ} إلى قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ} [الطارق: 4- 1]. ابن الأنباري: وهذا قبيح، لأن الكلام قد طال فيما بينهما وكثرت الآيات والقصص.
وقال الكسائي: جواب القسم قول: {إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64]. ابن الأنباري: وهذا أقبح من الأول، لأن الكلام أشد طولا فيما بين القسم وجوابه. وقيل الجواب قوله: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ} [ص: 54].
وقال قتادة: الجواب محذوف تقديره {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} لتبعثن ونحوه.
قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} أي تكبر وامتناع من قبول الحق، كما قال جل وعز: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] والعزة عند العرب: الغلبة والقهر. يقال: من عز بز، يعني من غلب سلب. ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} [ص: 23] أراد غلبني.
وقال جرير:
يعز على الطريق بمنكبيه *** وكما ابترك الخليع على القداح
أراد يغلب. {وشقاق} أي في إظهار خلاف ومباينة. وهو من الشق كأن هذا في شق وذلك في شق. وقد مضى في البقرة مستوفى. قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء. و{كَمْ} لفظة التكثير {فَنادَوْا} أي بالاستغاثة والتوبة. والنداء رفع الصوت، ومنه الخبر: {ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا} أي أرفع. {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} قال الحسن: نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. النحاس: وهذا تفسير منه لقوله عز وجل: {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس: {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} قال: ليس بحين نزو ولا فرار، قال: ضبط القوم جميعا قال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض مناص، أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله عز وجل: {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} قال القشيري: وعلى هذا فالتقدير، فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه، أي ليس الوقت وقت ما تنادون به.
وفي هذا نوع تحكم، إذ يبعد أن يقال: كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار.
وقيل: المعنى {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ} أي لإخلاص وهو نصب بوقوع لا عليه. قال القشيري: وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ}
وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجى ولا فوت. فلما قدم {لا} وأخر {حين} اقتضى ذلك الواو، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا، مثل قولك: جاء زيد راكبا، فإذا جعلته مبتدأ وخبر اقتضى الواو مثل جاءني زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله: {فَنادَوْا}. والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص، أي نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص. قال الفراء:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص ***
يقال: ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ. النحاس: ويقال: ناص ينوص إذا تقدم. قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد، والنوص الحمار الوحشي. واستناص أي تأخر، قاله الجوهري. وتكلم النحويون في {وَلاتَ حِينَ} وفي الوقف عليه، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود. فقال سيبويه: {لات} مشبهة بليس والاسم فيها مضمر، أي ليست أحياننا حين مناص. وحكي أن من العرب من يرفع بها فيقول: ولات حين مناص. وحكي أن الرفع قليل ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب، أي ولات حين مناص لنا. وا لقف عليها عند سيبويه والفراء {وَلاتَ} بالتاء ثم تبتدئ {حِينَ مَناصٍ} هو قول ابن كيسان والزجاج. قال أبو الحسن بن كيسان: والقول كما قال سيبويه، لأن شبهها بليس فكما يقال ليست يقال لات. والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء ولاه. وهو قول المبرد محمد بن يزيد.
وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة، كما يقال ثمه وربه.
وقال القشيري: وقد يقال ثمت بعني ثم، وربت بمعنى رب، فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا لاه، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء.
وقال الثعلبي: وقال أهل اللغة: و{لات حين} مفتوحتان كأنهما كلمة واحدة، وإنما هي {لا} زيدت فيها التاء نحو رب وربت، وثم وثمت. قال أبو زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان *** وفأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال آخر:
تذكر حب ليلى لات حينا *** ووأمسى الشيب فقطع القرينا
ومن العرب من يخفض بها، وأنشد الفراء:
فلتعرفن خلائقا مشمولة *** ولتندمن ولات ساعة مندم
وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن {ولات حين} التاء منقطعة من حين، ويقولون معناها وليست. وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين. وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى.
وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام: الوقف عندي على هذا الحرف {ولا} والابتداء {تحين مناص} فتكون التاء مع حين.
وقال بعضهم: {لاتَ} ثم يبتدئ فيقول: {حِينَ مَناصٍ}. قال المهدوي: وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين وهو غلط عند النحويين، وهو خلاف قول المفسرين. ومن حجة أبي عبيد أن قال: إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن، وأنشد لأبي وجزة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف *** ووالمطعمون زمان ابن المطعم
وأنشد لأبي زبيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان *** فأجبنا أن ليس حين بقاء
فأدخل التاء في أوان. قال أبو عبيد: ومن إدخالهم التاء في الآن، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان معك. وكذلك قول الشاعر:
نولي قبل نأي داري جمانا *** وصلينا كما زعمت تلانا
قال أبو عبيد: ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام- مصحف عثمان- فوجدت التاء متصلة مع حين قد كتبت تحين. قال أبو جعفر النحاس: أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فر واه العلماء باللغة على أربعة أوجه، كلها على خلاف ما أنشده، وفي أحدها تقديران، رواه أبو العباس محمد بن يزيد:
العاطفون ولات ما من عاطف ***
والرو آية الثانية:
العاطفون ولات حين تعاطف ***
والرواية الثالثة رواها ابن كيسان:
العاطفونة حين ما من عاطف ***
جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج، وزعم أنها لبيان الحركة شبهت بهاء التأنيث.
الرواية الرابعة:
العاطفونه حين ما من عاطف ***
وفي هذه الرواية تقديران، أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب، كما تقول: الضاربون زيدا فإذا كنيت قلت الضاربوه. وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله. والتقدير الآخر العاطفون على أن الهاء لبيان الحركة، كما تقول: مر بنا المسلمونه في الوقف، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف، كما قرأ أهل المدينة: {ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ} [الحاقة: 29- 28] وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه، لأنه يوقف عليه: ولات أوان غير أن فيه شيئا مشكلا، لأنه يروى ولات أوان بالخفض، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا. وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ {ولات حين مناص} بكسر التاء من لات والنون من حين فإن الثبت عنه أنه قرأ {ولات حين مناص} فبنى {لات} على الكسر ونصب {حين}. فأما: ولات أوان فقيه تقديران، قال الأخفش: فيه مضمر أي ولات حين أوان.
قال النحاس: وهذا القول بين الخطأ. والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال: تقديره ولات أو اننا فحذف، المضاف إليه فوجب ألا يعرب، وكسره لالتقاء الساكنين. وأنشده محمد بن يزيد ولات أوان بالرفع. وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائلة ولا تصح به حجة. على أن محمد بن يزيد رواه كما زعمت الآن.
وقال غيره: المعنى كما زعمت أنت الآن. فأسقط الهمزة من أنت والنون. وأما احتجاجه بحديث ابن عمر، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له: اذهب بها تلان إلى أصحابك فلا حجة، فيه، لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى. والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه: اذهب فاجهد جهدك. ورواه آخر: اذهب بها الآن معك. وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام {تحين} فلا حجة فيه، لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها، وفي المصاحف كلها {ولات} فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا. وجمع مناص مناوص.


{وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5)}
قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} {أن} في موضع نصب والمعنى من أن جاءهم. قيل: هو متصل بقوله: {فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} أي في عزة وشقاق وعجبوا، وقوله: {كَمْ أَهْلَكْنا} معترض.
وقيل: لا بل هذا ابتداء كلام، أي ومن جهلهم أنهم أظهروا التعجب من أن جاءهم منذر منهم. {فقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ} أي يجئ بالكلام المموه الذي يخدع به الناس، وقيل: يفرق بسحره بين الوالد وولده والرجل وزوجته {كَذَّابٌ} أي في دعوى النبوة. قوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً} مفعولان أي صير الآلهة إلها واحدا. {إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ} أي عجيب. وقرأ السلمي: {عجاب} بالتشديد. والعجاب والعجاب والعجب سواء. وقد فرق الخليل بين عجيب وعجاب فقال: العجيب العجب، والعجاب الذي قد تجاوز حد العجب، والطويل الذي فيه طول، والطوال، الذي قد تجاوز حد الطول.
وقال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، وكذلك الأعجوبة.
وقال مقاتل: {عجاب} لغة أزد شنوءة.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه، وجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا بن أخي ما تريد من قومك؟ فقال: «يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها الجزية العجم» فقال: وما هي؟ قال: «لا إله إلا الله» قال: فقالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً} قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ} حتى بلغ {إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ} خرجه الترمذي أيضا بمعناه. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقيل: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: {وماذا يسألونني} قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: قولوا لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً} فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [ص: 12]


{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)}
قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} {الْمَلَأُ} الاشراف، والانطلاق الذهاب بسرعة، أي انطلق هؤلاء الكافرون من عند الرسول عليه السلام يقول بعضهم لبعض {أَنِ امْشُوا} أي امضوا على ما كنتم عليه وما لا تدخلوا في دينه. {وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ}.
وقيل: هو إشارة إلى مشيهم إلى أبي طالب في مرضه كما سبق.
وفي رواية محمد بن إسحاق أنهم أبو جهل بن هشام، وشيبة وعتبة أبناء ربيعة بن عبد شمس، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وأبو معيط، وجاءوا إلى أبي طالب فقالوا: أنت سيدنا وأنصفنا في أنفسنا، فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه، فقد تركوا آلهتنا وطعنوا في ديننا، فأرسل أبو طالب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: إن قومك يدعونك إلى السواء والنصفة. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة» فال أبو جهل وعشرا. قال: «تقولون لا إله إلا الله» فقاموا وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً} الآيات. {أَنِ امْشُوا} {أن} في موضع نصب والمعنى بأن امشوا.
وقيل: {أن} بمعنى أي، أي {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} أي امشوا، وهذا تفسير انطلاقهم لا أنهم تكلموا بهذا اللفظ.
وقيل: المعنى انطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام: {امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ} أي على عبادة آلهتكم. {إِنَّ هذا} أي هذا الذي جاء به محمد عليه السلام {لَشَيْ ءٌ يُرادُ} أي يراد بأهل الأرض من زوال نعم قوم وغير تنزل بهم.
وقيل: {إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ} كلمة تحذير، أي إنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.
وقال مقاتل: إن عمر لما أسلم وقوى به الإسلام شق ذلك على قريش فقالوا: إن إسلام عمر في قوة الإسلام لشيء يراد. قوله تعالى: {ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}
قال ابن عباس والقرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي: يعنون ملة عيسى النصرانية وهي آخر الملل. والنصارى يجعلون مع الله إلها.
وقال مجاهد وقتادة أيضا: يعنون ملة قريش.
وقال الحسن: ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان.
وقيل: أي ما سمعنا من أهل الكتاب أن محمدا رسول حق. {إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ} أي كذب وتخرص، عن ابن عباس وغيره. يقال: خلق واختلق أي ابتدع، وخلق الله عز وجل الخلق من هذا، أي ابتدعهم على غير مثال. قوله تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا} هو استفهام إنكار، والذكر ها هنا القرآن. أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم. فقال الله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} أي من وحيي وهو القرآن. أي قد علموا أنك لم تزل صدوقا فيما بينهم، وإنما شكوا فيما أنزلته عليك هل هو من عندي أم لا. {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} أي إنما اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذابي على الشرك لزال عنهم الشك، ولما قالوا ذلك، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ. و{لما} بمعنى لم وما زائدة كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] وقوله: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} [النساء: 155]. قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} قيل: أم لهم هذا فيمنعوا محمدا عليه السلام مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة. و{أم} قد ترد بمعنى التقريع إذا كالكلام متصلا بكلام قبله، كقوله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} [السجدة: 3- 1] وقد قيل إن قوله: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} متصل بقول: {وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ص: 4] فالمعنى أن الله عز وجل يرسل من يشاء، لأن خزائن السموات والأرض له. {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} أي فإن ادعوا ذلك {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ} أي فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد. يقال: رقي يرقى وارتقى إذا صعد. ورقي يرقي رقيا مثل رمى يرمي رميا من الرقية. قال الربيع بن أنس: الأسباب أرق من الشعر وأشد من الحديد ولكن لا ترى. والسبب في اللغة كل ما يوصل به إلى المطلوب من حبل أو غيره.
وقيل: الأسباب أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد وقتادة. قال زهير:
ولو رام أسباب السماء بسلم ***
وقيل: الأسباب السموات نفسها، أي فليصعدوا سماء سماء.
وقال السدي: {فِي الْأَسْبابِ} في الفضل والدين.
وقيل: أي فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة. وهو معنى قول أبي عبيدة.
وقيل: الأسباب الحبال، يعني إن وجدوا حبلا أو سببا يصعدون فيه إلى السماء فليرتقوا، وهذا أمر توبيخ وتعجيز. وعد نبيه صلى النصر عليهم فقال: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ} {ما} صلة وتقديره هم جند، ف {جند} خبر ابتدا محذوف. {مَهْزُومٌ} أي مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم، لأنهم لا يصلون إلى أن يقولوا هذا لنا. ويقال: هزمت القربة إذا انكسرت، وهزمت الجيش كسرته. والكلام مرتبط بما قبل، أي {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تغمك عزتهم وشقاقهم، فإني أهزم جمعهم وأسلب عزهم. وهذا تأنيس للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد فعل بهم هذا في يوم بدر. قال قتادة: وعد الله أنه سيهزمهم وهم بما فجاء تأويلها يوم بدر. و{هُنالِكَ} إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: المراد بالأحزاب الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى اله عليه وسلم. وقد مضى ذلك في {الأحزاب}. والأحزاب الجند، كما يقال: جند من قبائل شتى.
وقيل: أراد بالأحزاب القرون الماضية من الكفار. أي هؤلاء جند على طريقة أولئك، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] أي على ديني ومذهبي.
وقال الفراء: المعنى هم جند مغلوب، أي ممنوع عن أن يصعد إلى السماء.
وقال القتبي: يعني أنهم جند لهذه الآلهة مهزوم، فهم لا يقدرون على أن يدعوا لشيء من آلهتهم، ولا لأنفسهم شيئا من خزائن رحمة الله، ولا من ملك السموات والأرض.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8